عبد الحي عبد الوهاب –
نشأت جماعة فينا في أوائل العشرينات من القرن العشرين (1922م) ، بوصفها جماعة لمناقشة فلسفة العلم وقد تزعم هذه الجماعة ( مورتيس شليك ) ، وجميعهم كانو أساتذة في جامعة فينا وأصبحت فلسفتهم تعرف بالوضعية المنطقية ، وقد تفرعت هذه الحركة إلى عدة فروع وتسميات مختلفة منها مدرسة التحليل المنطقي ، والتجريبية المنطقية ، والتحليل اللغوي والتجريبية العلمية والتجريبية التحليلية ، وأهم ممثلي هذه المدرسة رودلف كارناب. وأهم سمات الفلسفة الوضعية المنطقية نجد :
-انها تتسم بالتأكيد على الإتجاه العلمي ووحدة العلم.
رفض الميتافيزيقا على أساس أن قضاياها خالية من المعنى ، ثم اهمية الإتجاه التجريبي الوضعي ، وتحديد مهمة الفلسفة بتحليل المعرفة وخاصة المتعلقة بالعلم أي تحليل لغة العلوم ، وايضا التأكيد على مبدأ التحقيق (القابلية للتحقيق).
والحقيقة الوضعية أنها مبدأ قابلية التحقق ، بحيث إذا كانت البرجماتية قد وضعت معيارا للصدق في النتائج العلمية المفيدة فإن الوضعية المنطقية رأت معيار الحقيقة يكمن في القابلية للتحقق ، فلا بد من التحقق من صحة ما نبحث عنه فالمعرفة يجب أن تبرهن بملاحظات علمية وتبريرات حسية تجريبية ، فيما لا يحس لا معنى له ، وما لا معنى له لا حقيقة له.
ويعتمد مبدأ القابلية للتحقق على أساس التفرقة بين ماله معنى من العبارات وبين ما ليس له معنى ، فالعبارات التي يمكن التحقق منها صوريا أو واقعيا فتكون عبارات زائفة بغير معنى. ومن هذا المنطلق فالعبارات او القضايا التي تنطوي معنى أو دلالة هي تلك القضايا التي تقبل التحقق أو التثبت ، وهناك نوعان من القضايا يمكن التحقق منها إما صوريا أو واقعيا وهي القضايا التحليلية والقضايا التأليفية ، أي قضايا العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية. مثال أ) القضايا التحليلية:
1) إما أن يكون القلم أسودا أو لا يكون أسودا.
2) المثلث شكل هندسي محاط بثلاثة أضلاع متقاطعة.
3) س+س = 2س
هذه القضايا صادقة بمقتضى صورتها المنطقية أو هي من القضايا التحليلية تحصيل حاصل بحيث أن المحمول لا يأتي بجديد بل إنه يستخرج من الموضوع.
ب) القضايا التركيبية:
1) هذا القلم أسود
2) الأرض تدور حول الشمس
3) الأكسجين يساعد على الإشتعال
هذه القضايا صادقة لإمكان التحقق منها عن طريق الواقع والتجربة وهي قضايا تركيبية أو تأليفية حيث المحمول يضيف جديدا إلى الموضوع فكلمة أسود إضافة جديدة للقلم وليست متضمنة فيه وهكذا في بقية الأمثلة.
أما القضايا الميتافيزيقية فلا تعبر في الواقع عن تحصيل حاصل ولا عن فرض تجريبي ولما كانت قضايا تحصيل الحاصل وقضايا الفروض التجريبية تؤلف وحدها فئة القضايا ذات المعنى بأسرها فإننا يمكن أن نقول مع كل الحق أن قضايا الفلسفة (الميتافيزيقا) لا معنى لها من قبيل ( الجوهر أساس الوجود) أو ( المطلق خارج الزمن) هي قضايا خالية من المعنى طالما أنه لا توجد طريقة ممكنة للتحقق منها بواسطة التجربة كما أنها ليست تحصيل حاصل.
في النهاية يمكن القول إن كانت الوضعية المنطقية قد رفضت كل تأمل فلسفي بوصفه لغوا فإنها باعتمادها على نظرية القابلية للتحقق قد أجازت لنفسها استخدام قضايا الميتافيزيقا ، ذلك أن نظرية القابلية للتحقق هي ذاتها نظرية فلسفية ، كما أن اعتبار مبدأ التحقق معيارا للحقيقة وتقسيم القضايا إلى تأليفية وتحليلية ينتج عنه إلغأ كثير من قضايا الدين والفلسفة والأدب والفن بوصفها قضايا غير قابلة للتحقيق ، يضاف إلى ذلك اعتماد الوضعيين المناطقة على الحواس والإعتبار بالواقع والتجربة في المعرفة ، مما أعاد المشكلة إلى ما قبل سقراط. وهذا ما جعل البعض يرى أنها تمثل امتدادا للسوفسطائيين القدامى لا تفاقهم بنكران القيم والمبادئ المطلقة.